فكر المهندس المعماري
المهندس المعماري عليه أن يفكر قبل أي شيء، أنه ليس تقليدي، ليس نسخة مكررة، ليس شخص عادي، فكر المهندس المعماري متجدد وحر، لذا نتناول في هذا المقال حوادث وأحداث حقيقية تشير لثلاث مخاطر تهدد فكر المهندس المعماري عليه أن ينتبه لها لكي يحافظ على إبداعه و طريقة تفكيره في الهندسة المعمارية.
3 مخاطر تهدد فكر المهندس المعماري
الخطر الأول: فكر عدم الإنتقاد
أتذكر جيدا عندما كنت طالباً في السنة الأولى في قسم الهندسة المعمارية والعمران، قامت أحد الطالبات بإعداد بحث حول المعماري الشهير “لو كوربوزييه”، وعند الانتهاء من عرضه، قالت لها الأستاذة: «والآن ما رأيك في المهندس وما هي الانتقادات التي يمكنك أن توجهيها له ولعمارته؟»،
هنا إصفر وجه الطالبة ثم احمر وقالت: «لا يمكنني أن أنتقده ومن أنا حتى أنتقده، لا لا أبداً لن أفعل ذلك»!
نظرت في ذلك الوقت إلى وجه الأستاذة فرأيت فيه التذمر والإحباط، لم تعلق بعد هذا الكلام وأمرت الطالبة بالجلوس. لقد كان بحث الطالبة في القمة، بما أنها استطاعت أن تعده بهذه الاحترافية وأن تقدمه تقديماً رائعاً بدون القدرة على توجيه أي إنتقادات له ولو حتى بسيطة…
هكذا يَقتل بعض الناس عقولهم فلا يفكرون إلا بعقول غيرهم. أعتقد أنه يمكن لأي شخص أن ينتقد آخر بشروط النقد المعروفة: العلم وسلامة القصد، أما إضفاء القداسة على الأشخاص بهذه الطريقة فإنه كما يقتل العقول فهو يكبح روح الإبداع عند الإنسان.
الخطر الثاني: فكر الخوف والرضوخ
حتى إذا لم يقتل الإنسان عقله بازدراء نفسه وإحتقارها، قام بعض الأساتذة بفعل ذلك وبكل احترافية.. ففي يوم من الأيام عندما كنت أقوم بإعداد المشروع النهائي للحصول على الدبلوم وكنت أفضل أكثر العمارة القديمة التاريخية على العمارة الحديثة، قررت أن يكون مشروعي عبارة عن مركز إسلامي ضخم يحتوي على مسجد ومكتبة إسلامية ومركز ثقافي إسلامي ومدرسة لتدريس الطلاب الشريعة الإسلامية ومركز تجاري كبير، وكنا قبل أن نبدأ في المشاريع نعد بحوثاً في المواضيع التي نختارها، فمثلا من يريد أن يكون مشروعه مسجد فعليه أن يعد عدة بحوث حول المساجد، ومن أراد أن يكون مشروعه متحف يعد بحوثاً حول المتاحف وهكذا، فلما أعددت البحوث جمعت بين المساجد التاريخية بعمارتها الإسلامية وبين المساجد الحديثة بعمارتها الحديثة، ولكن عند البدء في المشروع أردت أن يكون المركز الإسلامي على طراز العمارة الإسلامية المغاربية القديمة.
لقد حاول الأستاذ حينها أن يجبرني على إستعمال تلك الأشكال الغريبة وترك التاريخ والسعي نحو الجديد، وأنا كنت أعارض ذلك، فذات يوم أردت أن أعبر عن عدم إرتياحي من هذا فقلت للأستاذة الثانوية (بحكم أن هناك أستاذ رئيسي وأستاذ ثانوي)، أنا لست مهتماً جداً بالعمارة الحديثة، خاصة وأنا سأعد مشروعاً إسلامياً فالطراز سيكون إسلامي مغاربي، أنا مهتم بالهندسة المعمارية الإسلامية، بعمارة النهضة الأوروبية، بعمارة القرون الوسطى، بعمارة الباروك وغيرها، هنا كانت الصدمة ونزل الجواب كالصاعقة: «من أنت حتى تقرر أو تحب، لست إلا مجرد طالب بسيط فاتبع فقط ما يقول لك الأستاذ». إنهم يربونك منذ الصغر على أن تكون تابعاً مقلداً.
طالع أيضاً: تعريف الهندسة المعمارية، كما لم يصلك من قبل!
الخطر الثالث: فكر النسخ والتقليد
هكذا لا يُستمع للطلبة ولا تُعطى لهم الحرية في التعبير وفي التحرر من أغلال أكثر الأساتذة. فينشؤون على الخوف والتبعية، ثم بعد التخرج وعلى الميدان، ترى مخططات منسوخة ثم ملصوقة في كل مكان، وبحوث مسروقة منشورة هنا وهناك، ولي مع هذا حادثتان:
الحادثة الأولى: كلفتني في يوم من الأيام أحد الأساتذة بإعداد بحث حول القباب، وكان البحث صعباً جداً لقلة المصادر والمراجع، فقمت بعمل شاق جداً وأعددت البحث بشق الأنفس وبعد أن قمت بعرضه، أعجبت الأستاذة بالبحث وتحصلت على علامة جيدة، فسمعت طالبة من القسم الثاني بذلك وكانت مكلفة أيضاً بإعداد بحث في نفس الموضوع، فجاءتني تطلب مني ذلك البحث، فاعتذرت لها عن عدم قدرتي على ذلك خشية أن تعرف أستاذتي بذلك فأعاقب، وأخبرتها أني سأعطيها كل الكتب والدراسات التي تحصلت عليها ووعدتها بذلك، وفعلا في اليوم التالي أتيتها بالكتب وشكرت لي ذلك، ولكن فاجأتني بعد أيام بزيارتها وطلبها مني البحث مرة أخرى. لم تكن تستطع أن تعد البحث، لقد سلبوها ثقتها في نفسها، إنها تربية بعض الجامعات في الوطن العربي.
الحادثة الثانية: كنا مشغولين جداً بالدراسة ومركزين عليها، حتى سمعنا بأن الجامعة أنشأت مكتبة جديدة داخل الحرم الجامعي، وكنا عند أحد الأساتذة فقال لنا: «يوجد فيها خطأ فادح في السلالم، إنه واضح بأهم نسخوا مخطط المكتبة ولصقوه في ذلك المكان، لا يوجد دراسة حقيقية». زرت المكتبة بعد ذلك فكانت السلالم منخفضة جدا رأيت بعيني كلما مر شخص من هناك أصابته في رأسه.
كلام من ذهب للدكتور (هشام جريشة)
-يقول الأستاذ الدكتور هشام جريشة الذي تعرض لهجمة شرسة في أحد المحاضرات بعد أن تكلم عن بعض عيوب عمارة حسن فتحي: «وبتلك الصورة كان الإبداع ينشأ من الاختلاف، وكان التنوع ينشأ من المبارزة العلمية. دون حقد من أحد على أحد ودون إنتقاص من أحد لقدر أحد، ومن ثم فلا غضاضة في معارضة عمارة الفقراء. إن من يحب حسن فتحي هو الذي يكمل مسيرته، ويرفع لوائه ويسد خلله ويجبر كسره، ولا يعميه الحب المفرط عن رؤية الحقيقة. والحقيقة أننا نبحث عن وطن أجمل ومدن تشهد بالعراقة والعلم وتعكس تراث البلد ونتاج بحثها العلمي».
إقرأ: سيرة المعماري الشهير “حسن فتحي”
الختام..
على المعماري أن يتحرر من هذه القيود أن يحرر عقله وأن يفكر وأن يبادر، فهذا “لو كوربوزييه” يتحرر من قيود تعريفات الهندسة المعمارية الكلاسيكية ويعرفها تعريفا فلسفياً لا أعتقد أنه سبقه إليه أحد: «العمارة هي اللعب المتقن، الصحيح، الرائع بالكتل المجموعة تحت الضوء»، تعريف غريب ولكن دافع عنه فوجد من يؤمن به.
المراجع:
هشام جريشة، فقراء العمارة، ص.8.
gilles de bure, architecture contemporaine, p.220
شـاهد أيضاً..